موقع العلامة السيد حسن النوري

تطور نظرية المعرفة عند الامام الشهيد الصدر(ض)

تطور نظرية المعرفة عند الامام الشهيد الصدر(ض)


حسن جابر النوري

اهمية البحث عن نظرية المعرفة



كيف تريد ان ترى العالم.. هل تريد ان تراه مادياً فقط أو اوسع من المادة ان ذلك مرتبط بما تملكه من ادوات للمعرفة والاكتشاف.. هل بامكانك ان تحكم باستحالة مربع له ثلاث اضلاع فقط ان هذا ايضاً ممكن في حالة ولا يمكن في حالة اخرى، وهل من الضروري لتكوين المعرفة ان تعتقد بمبادىء ومسائل قبل التجربة والاحساس وقد يعين الاحساس على ادراكها في مراحل مقبلة للذهن كمبدأ عدم التناقض وان الوجود والعدم يستحيل اجتماعهما، وهل ان بحث الادراك وتفسيره سيؤثر على مدى قدرتنا على المعرفة وهل سيوسعها في حالة ويضيقها في حالة اخرى نعم هذه هي الحقيقة التي اشبعها بحثاً كتاب فلسفتنا (وجاء كتاب الاسس المنطقية للاستقراء ليكمل) النتائج الصحيحة في الكتاب السابق عليه ولتناقش في بعض نتائجه..



موضوع نظرية المعرفة



في ضوء هذا البحث يتحدد مصير الفكر والتفلسف وترى «الموسوعة الفلسفية المختصرة» ان مجموعة جدُ متنوعة، من المشكلات الفلسفية ليس بينها رباط وثيق تتعلق بالافكار من قبيل المعرفة والادراك والتيقن والتخمين والوقوع في الخطأ والتبيين والاثبات والاستدلال والتأكيد والتعزيز والتساؤل والتأمل والتحليل ورؤية الاحلام وهلم جرا وكثيرا ما يسمى هذا الجزء من الفلسفة بـ«نظرية المعرفة» أو الايستمولوجيا(1).



اما الدكتور عبد الرحمن بدوي(2) فيرى ان نظرية المعرفة تبحث في مدى ما تستطيع عقولنا الوصول إليه في ادراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان وما هي ادوات المعرفة الصحيحة وما قيمة هذه الادوات وادوارها في تحصيل المعرفة البشرية.



والامام الشهيد الصدر يقول بان البحث في المقياس العام للمعرفة البشرية والمبادىء الاولى لهذه المعرفة هو الذي يقدم للفلسفة مبررات وجودها أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلي عن وظيفتها للعلوم الطبيعية. وقد اوضح السيد الصدر المقصود بهذا البحث وما هي فائدته وثمرته على مجمل التفكير البشري وعلى السلوك الاجتماعي. ولاول مرة يطبق فيلسوف نظريته على الواقع الاجتماعي ويجعل المسألة الاجتماعية هدفاً وغاية للبحث الفلسفي وحين يحدد الهدف من الفلسفة تكون الفلسفة علماً نافعاً وهادفاً ويكون الفيلسوف عنصراً فعالاً ومؤثراً، وبالتالي ويزول من الاذهان التصور المعقد والسلبي نحو الفلسفة والفيلسوف



___________________________________



1- الموسوعة الفلسفية المختصرة.



2- الموسوعة الفلسفية ـ عبد الرحمن بدوي.







ويحل محله تصور جديد وفهم ايجابي لدور الفلسفة والفيلسوف في تكوين الرؤية الايدلوجية للبشرية..



ونلاحظ في تاريخ اغلب الفلاسفة حدوث تحول خطير يستهدف نفع المجتمع ففي البيئة المسيحية يظهر (اوغست كانت) ليأسس دينا بعد عجزءه عن قبول افكار المسيحية.



وفي البلاد الإسلامية يجرد عبد الرحمن بدوي سلاحه الفلسفي والفكري ليدافع عن الإسلام وهذا ما فعله قبله زكي نجيب محمود.



ان عودة هؤلاء الفلاسفة إلى هويتهم الإسلامية سوف يسهم اسهاماً بالغاً في تقريب كثير من الشباب إلى الفلسفة لان مواقع البطولة هي المؤثرة في اذهان الشباب وحين يكون الفيلسوف مقاتلاً وبطلاً فانه يتحول إلى قدوة وانموذج يُحتذى وتحملُ المسؤولية من قبل الفيلسوف لا يعني فقط انّه يتعامل مع الاذهان والعقول بالشرح والتحليل بل يضيف إلى ذلك الاقناع والتدليل بالقول والعمل وهل هناك انفع للفلسفة من ان يقع الفيلسوف شهيداً دفاعاً عن منهج اكتشفه وخدم به دينه ورسالته كما فعل السيد الشهيد الصدر ولا عجب ان يستشهد الفيلسوف كما يقع المقاتل شهيداً فكلاهما يدافع عن عقيدته ورسالته.



نظرية المعرفة وقيمتها عند الشهيد الصدر



انفرد السيد الصدر (رض) من بين فقهاء المسلمين وعلمائهم بتكوين نظرية في المعرفة جديدة على التفكير المنطقي والفلسفي الكلاسيكي والحديث، حيث اكتشف النواقص في المدرسة القديمة والحديثة فتداركها لينتهي إلى نظرية تجمع بين حسنات المدرستين ولا يمكن من خلال بحث واحد ولكاتب واحد الالمام بتفاصيل رؤيته الجديدة نحو المعرفة خصوصاً إذا لاحظنا التطور الحاصل في نظريته المطروحة في فلسفتنا والمتكاملة في الاسس المنطقية للاستقراء وهذا يعني ان الباحث لا بد له من المرور على نظرية فلسفتنا في المعرفة ليقارنها بما جاء في الاسس، كما ان السيد الصدر لم يُشر هو بنفسه إلى كل المفردات التي تخالف فيها الكتابان ثم ان هناك من يرى ان السيد الصدر لم يأت ببحث مستقل تحت هذا العنوان (نظرية المعرفة) في غير كتاب فلسفتنا ولكن هذا لا يضير بالبحث عن نظريته في المعرفة لان خلاصة ارائه الاخيرة في المعرفة استوعبتها الاسس المنطقية للاستقراء وعلينا ان نأخذ بعين الاعتبار ان السيد الصدر اقرّ ما جاء في فلسفتنا مما لم يغيره في الاسس. وسنجد ان الصدر سوف لن يشير في الاسس إلى نظريته في التصورات ومصدرها اي انّه ابقى نظرية الانتزاع كمصدر للتصورات على ما هي عليه كما انّه سيشير إلى ان مصدر التصديقات المطابقة للواقع ليس هو نفس المصدر المذكور في فلسفتنا..



كما ان اثبات حقيقة ان للعلم والصور الذهنية مطابق في عالم الخارج أو الواقع ليس دليله قانون العلية لان هذا القانون لا يثبت الا وجود علة لتولد الصور اما المصدر الاساسي فلا يحدده هذا القانون. ويرى البعض ان السيد الصدر لم يُمهل الوقت الكافي لاشباع البحث في النظرية وتكميله.. ولكننا نعلم ان السيد كان بعد تأليفه للاسس يشير باستمرار إلى نظريته الجديدة في المعرفة ومذهبه الذي ابدعه (المذهب الذاتي) مما يعني انها تكاملت في كتابه الاسس المنطقية للاستقراء.



يمكننا عرض نظرية المعرفة للشهيد الصدر بالشكل التالي:



النظرية في فلسفتنا



النظرية في الاسس المنطقية للاستقراء



تطبيقات النظرية في المجالات المختلفة



العقائد ونأخذ مثالاً لذلك تفسير المعجزة وكيفية الاستدلال بها



والامامة والولاية



نظرية المعرفة في فلسفتنا



منهج البحث



تحديد الموضوع وعرض مختلف النظريات ومناقشتها



اختيار الصحيح منها



1 ـ تحديد الموضوع



ما هي مصادر الفكر ومقاييسه.



مصادر المعرفة ومنابعها الاساسية.



الركائز الاولية للكيان الفكري، المصدر الممون لسيل الفكر والادراك.



الخيوط الاولية للتفكير.



الينبوع العام للادراك بصورة عامة.



تقسيم الادراك.



تقسيم الادراك إلى قسمين:



التصور وهو الادراك الساذج والتصديق هو الادراك المنطوي على حكم وهنا يتفرع البحث إلى فرعين



الاول: ما هو المصدر الاساس للتصور، ما هو المصدر الحقيقي للتصورات والادراكات البسيطة كتصور الكتاب والنار وما يعالج هنا هو مصدر المفردات التصورية لا مركبات التصور كالجبل من الذهب..



يستعرض السيد اربع نظريات ليبطل الثلاثة الاولى ويختار الرابعة وتعتمد منهجيته هنا على ذكر مشاكل فكرية تواجه النظريات الثلاثة الاولى ولا تعجز الرابعة عن حلها والتغلب عليها وكان عرضه كما يلي:



(1) نظرية الاستذكار الافلاطونية التي ترى ان الاحساس استرجاع واستذكار للتصورات العامة التي ادركتها في عالم المجردات والمثل وهو عالم حافل بالحقائق الكلية وعلى هذا فالعالم والادراك العقلي لا يتعلق بالجزئيات بل بالامور العامة والكلية. وقد ناقش ارسطو هذه النظرية باثبات ان الكلي لا يوجد في الذهن الا بعد ادراك الجزئيات وتجريدها عن خصوصياتها أو بانتزاع المعنى الكلي من الجزئيات.



2 ـ النظريات العقلية ـ ديكارت ـ كانت



هناك منبعان للمعرفة هما الاحساس والفطرة



لماذا اختاروا هذه النظرية لان بعض التصورات والمعاني لا يمكن ارجاعها إلى الحس لانها غير محسوسة اذن هي مستبنطة من النفس استنباطاً ذاتياً.



الرد عليها باسلوبين:



(1) تحليل الادراك بحيث يرجع برمته إلى الحس.. جون لوك.. باركلي ودافيد هيوم.



(2) الاسلوب الفلسفي كيف يتولد كمّ هائل من المعارف من النفس وهي عنصر بسيط.



هذا الرد غير تام إذا ملكنا كمية المعارف الفطرية.



ويمكن ان تبين النظرية العقلية بشكل آخر تكون مقبوله فيه ولا يرد عليه كلا الردين لان التصور الفطري يحتويه الوجود النفسي لا شعوريا وبتكامل النفس يغدو شعوريا واضحاً.. كالمعلومات التي يتذكرها الإنسان..



2 ـ النظرية الحسية



التي ترى ان الاحساس هو الممون الوحيد للذهن البشري بالتصور والمعاني والذهن مجرد عاكس للاحساس وظيفة الذهن اذن التصرف في صور المعاني المحسوسة بالتركيب والتجزئة أو التجريد والتعميم.



نظرية جون لوك



شاعت بين فلاسفة اوربا وقضت إلى حد ما على نظرية الافكار الفطرية ونتائج هذه النظرية الخطرة كما سيظهر في فلسفة باركلي وهيوم والمعروف ان الماركسية اختارت هذه النظرية لانها ترى في الشعور البشري انّه انعكاس للواقع الموضوعي وكان دليلها التجربة، فان من حرم لونا من الوان الحس فلايتصور المعاني ذات العلاقة بذلك الحس الخاص. هذه التجارب تبرهن على ان الحس هو المصدر الاساسي للتصور ولا تنفي قدره الذهن على توليد معاني جديدة غير محسوسة من المعاني المحسوسة.



الرد على الحسيين



نعرض هذه الطائفة من التصورات على الحسيين وهي ما يلي:



العلة والمعلول والجوهر والعرض والامكان والوجوب والوحدة والكثرة والوجود والعدم.



هل يمكن ارجاع هذه المفاهيم إلى الحس؟



فالمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحس لنفس العلية واعتبارها مبدأ حسياً تقوم على تجنب العمق والدقة في معرفة مبدأ أن الحس وما يتسع له من معاني وحدود.. لان التجربة العلمية لا تكشف بالحس الا الظواهر المتعاقبة ودافيد هيوم فيلسوف دقيق انكر العلية وارجعها إلى عادة ذهنية هي تداعي المعاني.



رد الشهيد الصدر على هيوم:



انكار العلية كحقيقة موضوعية يعني عدم تصديقنا بكونه قانونا خارجيا ولسنا نتكلم عن التصديق بل عن التصور. وهل ينفي هيوم تصوره للعلية وهل ينفي الإنسان شيئا لم يتصوره.. ولا يمكن لهيوم ان يقول ان تصور العلية تصور مركب من تصور الحرارة والغليان بل العلية فكرة ثالثة تقوم بينهما أو صلة خاصة بينهما فاذا لم يكن للذهن خلاقية وقدره على الابداع فكيف حصلت هذه الفكرة..



4 ـ نظرية الاقتراع



وتقوم على تقسيم التصورات إلى قسمين:



التصورات الاولية والتصورات الثانوية



والاولية هي الاساس التصوري للذهن البشري، وهي تتولد من الاحساس.. وتشكل المعاني المحسوسة والمتصورة ـ القاعدة الاولية للتصور والذهن ينشأ بناء على قاعدة تلك التصورات.



اما التصورات الثانوية وهنا يبدأ دور الابتكار والانساء



فيولد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الاولية وهي خارجة عن طاقة الحس لكنها مستنبطة ومستخرجة من المعاني المحسوسة..



تقييم نظرية الانتزاع



(1) البرهان والتجربة يساعدان على اثبات هذه النظرية.



(2) يمكنها تفسير جميع المفردات التصورية تفسيراً متماسكاً.



فالعلة والمعلول والجوهر والعرض تولدا بابتكار الذهن لها..



الثاني: التصديقية



اصل المعرفة التصديق والركائز الاساسية التي يقوم عليها صرح العلم الإنساني.



ما هي الخيوط الاولية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الاحكام والعلوم وما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التعليل وتعتبر مقياسا اوليا عامة لتمييز الحقيقة عن غيرها.. هناك مذهبان: المذهب العقلي، المذهب التجريبي.



المذهب العقلي يقسم المعلومات التصديقية إلى قسمين اولية وهي البديهيات.



وثانوية وهي المعلومات المستنتجة من الاولى حيث ان المعارف ضرورية ونظرية والضرورة تضطر النفس للاذعان بها من غير المطالبة بدليل أو برهان بل تجد من طبيعتها ضرورة الايمان بها ايماناً غنيا عن كل بينة وآيات والحجر الاساس للعلم هو المعلومات العقلية الاولية وعلى ذلك الاساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني والتي تسمى بالمعلومات الثانوية.



التفكير هو العملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة ويؤمن المذهب العقلي بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات وبعض.



فان كل معرفة انما تتولد من معرفة سابقة وهكذا تلك المعرفة حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الاولية التي لم تنشأ من معارف سابقة ولهذا السبب تعتبر هذه المعارف القبلية العلل الاولى للمعرفة. وهي على نوعين:



(1) ما تكون شرطا اساسياً لكل معرفة انسانية بصورة عامة وهو مبدأ عدم التناقض.



(2) ما يكون سببا لقسم من المعلومات كمبدأ العلية..



نتائج



(1) المقياس الاول للتفكير هو المعارف العقلية الضرورية..



(2) السير الفكري يتدرج من العام إلى الخاص ومن الكليات إلى الجزئيات حتى التجريبيات.



المذهب التجريبي يرى ان التجربة هي المصدر الاول لجميع المعارف البشرية والانسان يولد وهو خالي الذهن من كل معرفة نظرية ولا يملك الإنسان حكماً يستغني عن التجربة في اثباته.



ومن النتائج المترتبة على هذا المذهب:



(1) تحديد طاقة الفكر البشري بحدود الميدان التجريبي.



(2) السير الفكري ينطلق من الخاص إلى العام ومن الجزئيات إلى الكليات.



وبهذا يعتمد المذهب التجريبي على الاستقراء.



الرد على المذهب التجريبي



(1) نفس القاعدة التي يعتمد عليها التجريبيون اما ان تكون تجريبية أو غير تجريبية. فلا يمكن للتجربة ان تعطي قيمة لنفسها وان لم تكن تجريبية فالقاعدة المتقدمة لا تشملها اي انها باطلة.



(2) المادة والجوهر لا يمكن كشفهما بالتجربة.



(3) لن يستطع المذهب التجريبي الحكم باستحالة شيء أو بالضرورة شيء آخر ومع سقوط مفهوم الاستحالة يكون التناقض ممكنا ومع امكانه تنهار العلوم..



(4) العلية لا تثبت عن طريق التجربة.



ومع انهيار مبدأ العلية تنهار قاعدة اثبات العلوم. لهذا حاول هيوم ارجاع عنصر الضرورة إلى طبيعة العملية العقلية.



رد على هيوم باربع نقاط



يمكن للمذهب العقلي تفسير الضرورة في الرياضيات ومن العلوم.



لماذا لم تكن البديهيات موجودة عند الإنسان منذ نشأته؟



ان المعارف الاولية وان كانت تحصل للانسان بالتدريج إلاّ ان هذا التدريج ليس معناه انها حصلت بسبب التجارب الخارجية بل التدرج انما هو باعتبار الحركة الجوهرية والتطور في النفس الإنسانيّة فهذا التطور والتكامل الجوهري هو الذي يجعلها تزداد كمالاً ووعياً. للمعلومات والمبادىء الاساسية فيفتح ما كمن فيها من طاقات وقوى.



اذن هناك وجود بالقوة وباللاشعور لهذه المعارف.



اي ان النفس الإنسانيّة تنطوي على ما بالقوة على تلك المعارف الاولية وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.



وبدون تصور الوجود والعدم والاجتماع لا يمكن الحكم باستحالة اجتماع النقيضين فان تصديق الإنسان بشيء لا يحصل بدون تصوره.



والتصورات الذهنية ترجع جميعاً إلى الحس بصورة مباشرة أو غير مباشرة فيجب ان يكتسب الإنسان مجموعة التصورات التي يتوقف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق ما ليتاح له ان يحكم بهذا المبدأ ويصدق به. وتأخر ظهور المبدأ لا يعني كونه تجريبياً، ان التصورات الخاصة هي شروط وجوده وصدوره عن النفس.



المفهوم الفلسفي للعالم



طرح السيد الشهيد نظرية المثاليين ومفهومهم عن العالم وقابله بمفهوم الواقعيين الذين يرون ان وراء الفكر والاحكام الذهنية حقائق واقعية خارجية فكرتنا عن حرارة النار لها مطابق خارجي والواقعيون ماديون والاهيون.



والماديون يعتقدون ان لا وجود واقعي لغير ما هو مادي بينما يرى الالالهيون وجود اشياء واقعية وراء عالم المادة ونفس التصنيف يرد في مسألة الادراك حيث ان وجهتي النظر المادية والالهية انطبقت على الادراك فالمادية ترى ان الفكر عمل مادي في عضو مادي بينما ترى الالهية ان الفكر عمل خلاق للعقل لا يقع في العضو المادي كالدماغ واستدلّ الاهيون بأدلة لهذا الامر منها ظاهرة الثبات في الافكار بينما لاثبات لما هو مادي ومنها ظاهرة المطابقة الكاملة للفكر مع الواقع الخارجي بمساحاته واشكاله الهندسية مع سعتها بينما العضو المادي مهما كبر لا يتسع لهذه المساحات..



ويؤيد الامام الصدر مفهومه الالهي عن العالم ببحوث عن المادة في مختلف الاصعدة العلمية والفلسفية لينتهي إلى نتيجة هي عدم قدرة المفهوم المادي على تفسير ظهور الحياة من غير صانع ومبدع وان المادة ليست ازلية ولنقارن كلام السيد الصدر بكلام لعالمين كبيرين حول الموضوع يقول العالمان روبرت اغروس وجورج نستانسيوفي في كتابهما العلم في منظوره الجديد ص 64 ـ 65.



يبدو إذاً أن المادة ليست ازلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك «Joseph Silk» فان «بداية الزمن امر لا مناص منه». كما يخلص الفلكي روبرت جاستر «Robert Jastrow» إلى ان «سلسلة الحوادث التي ادت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة».



فهل من مكان لاله فيكون كهذا؟ الفيزيائي ادموند ويتيكر «Edmund Whittaker» يعتقد كذلك. فهو يقول: «ليس هناك ما يدعو إلى ان نفترض ان المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم وانّه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الازلية؟ والابسط ان نفترض خلقاً من العدم، اي ابداع الارادة الالهية للكون من العدم». وينتهي الفيزيائي ادوارد ميلن «Edward Milne» بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة، اما العلة الاولى للكون في سباق التمدد فأمر اضافتها متروك للقارىء، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله».



اما النظرة العلمية الجديدة فترى ان الكون بمجموعه ـ بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان ـ حدث وقع في وقت واحد وكانت له بداية محددة. ولكن لا بد من ان شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لانه إذا لم يوجد اي شيء الذي كان موجوداً على الدوام لانه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. وبمعنى ذلك ان اي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو ان الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل. فاذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلابد من ان تكون المادة من خلق عقل ازلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وازلي خلق كل الاشياء. وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة «الله».



نظرية المعرفة في فلسفتنا



نستطيع ان نستخلص الخطوط العريضة لمذهبنا في المعرفة وتتلخص فيما يأتي:



الخط الاول: ان الادراك البشري على قسمين: احدهما التصور، والآخر التصديق. وليس للتصور بمختلف ألوانه قيمة موضوعية، لانه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، وهو لا يبرهن ـ إذا جرد عن كل اضافة ـ على وجود الشيء موضوعياً خارج الادراك، وانما الذي يملك خاصية الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية. فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصور.



الخط الثاني: ان مرد المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف اساسية ضرورية، لا يمكن اثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحتها، وانما يشعر العقل بضرورة التسليم والاعتقاد بصحتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية والمبادىء الرياضية الاولية، فهي الاضواء العقلية الاولى، وعلى هدي تلك الاضواء يجب ان تقام سائر المعارف والتصديقات، وكلما كان الفكر ادق في تطبيق تلك الاضواء وتسليطها كان ابعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة، تتبع مقدار ارتكازها على تلك الاسس ومدى استنباطها منها، ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كل من الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات على ضوء تلك الاسس، وان اختلفت الطبيعيات في شيء، وهو ان الحصول على معارف طبيعية بتطبيق الاسس الاولية يتوقف على التجربة التي تهيء للانسان شروط التطبيق، واما الميتافيزيقا والرياضيات فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجية.



وهذا هو السبب في ان نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات، فان تطبيق الاسس الاولية في الطبيعيات لما كان محتاجاً إلى تجربة تهيء شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على اساسها قطعية.



ولنأخذ لذلك مثلاً من الحرارة. فلو اردنا ان نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدة تجارب عملية، ووضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة ان «الحركة سبب الحرارة». فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مبادىء ومعارف ضرورية على التجارب التي جمعناها ودرسناها، ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادىء الضرورية. فالعالم الطبيعي يجمع اول الامر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمى والاجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الاشياء الحارة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها وهو مبدأ العلية القائل «ان لكل حادثة سبباً». فيعرف بذلك ان لهذه المظاهر من الحرارة سبباً معيناً، ولكن هذا السبب حتى الآن مجهول ومردد بين طائفة من الاشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟



ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ تلك الطائفة من الاشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدة من الاشياء ويسقطها من الحساب، كدم الحيوان ـ مثلاً ـ فهو لا يمكن ان يكون سبباً للحرارة لان هناك من الحيوانات ما تكون دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما امكن ان تنفصل عنه ويكون بارداً في بعض الحيوانات. ومن الواضح ان استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن إلاّ تطبيقاً للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأن الشيء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كل شيء مما كان يظنه من اسباب الحرارة فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري. فان امكنه ان يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل ان يكون سبباً للحرارة، ويدلل على عدم كونه سببا ـ كما فعل في دم الحيوان، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي ـ حتماً ـ بعد اسقاط الاشياء الاخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقة قاطعة، لارتكازها بصورة كاملة على المبادىء العقلية الضرورية، واما إذا بقي في نهاية الحساب احتمالان أو اكثر ولم يستطع ان يعين السبب على ضوء المبادىء الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية وليست قطعية.



وعلى هذا نعرف:



اولاً: ان المبادىء العقلية الضرورية هي الاساس العام لجميع الحقائق العلمية، كما سبق في الجزء الاول من المسألة.



ثانياً: ان قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية. موقوفة على مدى دقتها في تطبيق تلك المبادىء الضرورية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها. ولذا فلا يمكن اعطاء نظرية علمية بشكل قاطع إلاّ إذا استوعبت التجربة كل امكانيات المسألة واحتمالاتها، وبلغت إلى درجة من السعة والدقة بحيث امكن تطبيق المبادىء الضرورية عليها. واقامة استنتاج علمي موحد على اساس ذلك التطبيق.



ثالثاً: في المجالات غير التجريبية ـ كما في مسائل الميتافيزيقا ـ ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادىء الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتم فيها بصورة مستقلة عن التجربة. ففي مسألة اثبات العلة الاولى للعالم ـ مثلاً ـ يجب على العقل ان يقوم بمحاولة تطبيق مبادئه الضرورية على هذه المسألة، حتى يضع بموجبها نظريته الايجابية أو السلبية، وما دامت المسألة ليست تجريبية فالتطبيق يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت وبصورة مستقلة عن التجربة.



وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها. ونقول «في كثير من مجالاتها» لان استنساخ النظرية الفلسفية أو الميتافزيقية من المبادىء الضرورية في بعض الاحايين يتوقف على التجربة أيضاً، فيكون للنظرية الفلسفية حينئذ نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.



الخط الثالث: عرفنا ان المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا أيضاً ان هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادىء الضرورية. فالمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية ـ فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة ـ والواقع الموضوعي الذي صدقنا بوجوده من ورائها.



والجواب على هذه المسألة هو ان الصورة الذهنية التي نكونها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان: فهي من ناحية تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً اساسياً. لانها لا تملك الخصائص التي تمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من الوان الفعالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكونها عن المادة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصلة لا يمكن ان تقوم بنفس الادوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج.



وبذلك نستطيع ان نحدد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الاخرى وهي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي والتي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثل الشيء فيها لدى الذهن، ولكن الشيء الذي يمكث لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كل فعالية ونشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي، بسبب التصرف الذاتي، وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية والوجود.(1)



نظرية المعرفة في الاسس المنطقية



اعتمد البحث على:



هدم النظرية الارسطية نحو الاستقراء وارجاع المعرفة إلى الاستقراء والطريقة الاستقرائية لا الاستنباطية.



طرح نظرية جديدة تبين ان الاسس المنطقية للاستقراء لا تزيد على الاعتقاد ببداهة مبدأ عدم التناقض وبديهيات ومصادرات نظرية حساب الاحتمال.



حتى العلية والسببية كمبدأ ضروري لتكوين كل معرفة تصديقية في كل المجالات التجريبية حسب فلسفتنا اصبح مبدأ يمكن الاستدلال عليه على ضوء نظرية استاذنا الشهيد الصدر الجديدة فهو وان لم ينكر كون مبدأ العلية ضرورياً وبديهياً لكنه انكر كونه ضرورياً لعملية الاستدلال بواسطة التجربة والاستقراء.



حتى يكون الاستدلال صحيحاً، في رأي المذهب العقلي، لابد ان تكون طريقة التوالد فيه موضوعية لا ذاتية، وان تكون القضايا أو المقدمات المولدة صادقة.



وعلى هذا الاساس اضطر المنطق الارسطي ـ نتيجة لايمانه بالدليل الاستقرائي ـ إلى القول بأن طريقة التولد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية، وان كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية قبلية تقول: ان الصدفة النسبية لا تتكرر باستمرار على خط طويل، وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية تقول: ان «أ» و«ب» اقترنا باستمرار على خط طويل كما شرحناه.



واكد المنطق الارسطي بهذا الصدد: ان الامثلة المستمدة من الاستقراء والخبرة الحسية ـ التي تكون الصغرى في القياس ـ لا تكفي وحدها لاستنتاج اي تعميم استقرائي، اذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعياً، فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعية مالم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى العقلية القبلية التي تنفي تكرر الصدفة النسبية على الخط الطويل.